في الوقت الذي أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بوابة لوسائل الإعلام والصحف ومراكز الأخبار، ضمن نقلة نوعية تتابعت خلال السنوات الماضية حتى وصلت لواقعها الحالي اليوم، بأنّ أصبحت تلك الوسائل هي المُصدر للصورة والكلمة والفكاهة خاصةً بما تميزت به من كونها سهلة الوصول على الأجهزة الشخصية، وتحولها لمصدر دخل عالي لدى الكثير من المؤثرين والشخصيات الاعتبارية، والقنوات والمواقع والشركات، وأمام هذا الزخم كله من طغيان وسائل التواصل وقدرة كل شخص على امتلاك حساب وقناة خاصة يبث فيها ما يشاء من محتواه، نجح البعض في إدارة المحتوى، وحقق ملايين المشاهدات، وكسب الكثير من الأموال، حتى بعض الصحفيين والإعلاميين تماشى مع الظاهرة وأصبح يوتيوبر (صانع محتوى عبر منصة يوتيوب) أكثر ما هو صحفي أو إعلامي منضبط بقواعد وأخلاقيات وأصول المهنة، بيد أنّ الكثير من الصحفيين لم يستطيعوا الوصول لنفس مستوى شهرة رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالرغم من امتلاكه فن التصوير وبناء القصة واختيار مواضيع ملامسة للمجتمع.
والسؤال لماذا لم ينجح الصحفيين والإعلاميين بالوصول لنفس مستوى مشاهير مواقع التواصل بالرغم من امتلاكهم لجميع مقومات العمل؟ وما السلبيات المترتبة على مهنة الصحفي الأساسية إذا ما قرر المضي بطريق الشهرة والصحافة سواء؟ وهل على الصحفي أنّ يكون مشهور حتى يحقق الرضى عن نفسه؟ وهل العمل الصحفي مرتبط بالنجومية؟
يقول الاستقصائي “أحمد حاج حمدو” الشاغل لمنصب محرر أول مع الوحدة السورية للصحافة والمسائلة سراج يحب التفريق أكاديمياً ومهنياً بين الصحافة كعلم ومهنة، وبين صناعة المحتوى كعلم ومهنة، وبالرغم من كون المهنتين يُقدمان إلى الجمهور لكن الصحافة لاتشبه صناعة المحتوى وأوجه الاختلاف بينهم أنّ الصحافة هي الإعلام بمعنى الإخبار، أنّ تخبر الناس بشيء ما يجري، ولكن بسبب جفاف المعلومات قديماً، والأرقام والإحصائيات التي تقدمها الصحافة عكفت المؤسسات الإعلامية ودور الأخبار ومدارس الصحافة أنّ تصنع قوالب المعلومات ضمن قصة، أي تأتي بإنسان يكون محور قصة ما وتسرد قصته، ومن خلالها تسرد ما لديها من حقائق ووقائع، فالصحفي يخبر الناس بما يجري وهذه مهنته الأساسية، فيما يهدف علم صناعة المحتوى إلى غرض أساسي إما الترفيه أو التثقيف، لكن ليس مهمته الأخبار.
ويضيف “حاج حمدو” بأنّ الصحافة تختلف عن صناعة المحتوى بطريقة تقديم الوقائع فعندما يكون لدينا خبر له علاقة بالأسواق المالية أو المخيمات أو المجاعة، فالصحفي ملزم بأساسيات وأبجديات لابد أنّ تقدمها مثل تاريخ القصة والأرقام والعوائق للقصة، وهذا الشكل لا تنتهجه صناعة المحتوى الذي ربما يعتمد على قصة طفل وتصويره بطريقة عاطفية، بعكس الصحافة التي تعتمد على الأرقام والجفاف، أما صانع المحتوى يبحث عن قصة جذابة ومدغدغة لعواطف الجمهور. وبالنسبة لطرق التصوير دائما تلزمك الصحاف بأسلوب معين جاد وملتزم مؤطر في نظرية تسمى المسؤولية الاجتماعية، يكون فيها الصحفي مشابه للواقع الذي يتكلم عنه، منضبط بالصور والحركة وطريقة الكلام والموسيقى المستخدمة، بينما صانع المحتوى غير ملزم بكل ذلك وله مجال حرية أكثر من الصحافة وضوابطها، وبالتالي نرى أنّ الصحافة جادة أكثر وملتزمة أكثر قائمة على مبدأ إخبار الناس بالحقائق والوقائع وإخبار الناس بما يجري بطريقة جادة عكس صناعة المحتوى القائمة على التركيز على قصة جذابة تنشهر بين الناس وتشهر صاحبها.
وحول سؤال لماذا لم ينجح الصحفيين والإعلاميين بالوصول لنفس مستوى المشاهير يلفت “حاج حمدو” أنّ الصحافة معلوماتها جادة والناس ميالة للترفيه والمحتوى العلمي الغريب البعيد عن الأخبار والصحافة والمحتوى الحاوي على المقالب واللوحات التمثيلية، وهذا طبع البشر ميالة للترفيه، لكن كل ذلك لا يقدم محتوى أخباري وأخبار جادة وهذا شيء مختلف تماماً عن الصحافة المنضبطة بنظم وقوانين.
ويشير “حاج حمدو” في حديثه لشبكة الإعلاميين السوريين إلى أنّه يجب أنّ يحدد الشخص هويته ويختارها فمن غير الممكن أنّ يكون صحفي وصانع محتوى بنفس الوقت، لأن الصحفي لديه هوية خاصة يترتب عليها بمسؤولية الناس الاجتماعية، ويقدم لهم معلومات وأخبار وحقائق، حيث يتم اللجوء له لتقديم هموم الناس، حتى يكون جسر مع الجهة المسؤولة والمناشدة وإيصال المعاناة، وكل ذلك لا تصنعه صناعة المحتوى ذات العمل المختلف، وبالتالي لا يمكن جمع المهنتين معاً لأن ذلك سيؤثر على عمل الصحفي الذي يهوى أنّ يكون محترفاً، والذي يجب أنّ يكون محدد هويته بجمع الأخبار بطريقة خاصة، وتنقيحها والتحقق منها ليطلقها للجمهور، أما في حال مضى الصحفي لصناعة المحتوى فسيؤثر على هويته الأساسية، وهنا سيكون غياب الهوية والتأثير والخلط الغير مفهوم بين الصحافي والعلوم الأخرى، فالصحفي إذا كان يستطيع أن يجمع بين الصحافة وصناعة المحتوى فباستطاعته أنّ يكون أيضاً يعمل في مجالات أخرى، كالطرب مثلاً وبالتالي حسب وجهة نظر “حاج حمدو” يجب على الصحفي المحترف أنّ يحدد ويحفظ هويته وإذا رأى في نفسه القدرة على صناعة المحتوى فليترك الصحافة، ولا يخلط بين المهنتين لما فيه من ضياع للهوية والشخصية.
يختم “حاج حمدو” حديثه بالقول أنّ الصحافة لا ترتبط بالشهرة فهناك صحفيين نجحو بتغيير قوانين على مستوى العالم ووضعوا بصمة لا يمكن أنّ تمحى بالصحافة، ولم تعرف أسمائهم إلا بعد موتهم، مثل صحفية أمريكية تدعى “نيلي بلي” كان لها تحقيق استقصائي بعنوان “الدم الملوث” الذي غير قواعد التبرع بالدم بكل أنحاء العالم وتحقيقات كان لها أثر في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد موتها اتضح أنّ اسم نيلي بلاي هو اسم مستعار، ومن هنا فالشهرة ليس لها علاقة في الصحافة، فالصحفي لا يمكن أنّ يكون نجم، ومن يريد النجومية فوسائل التواصل الاجتماعي وصناعة المحتوى موجودة، والغناء والتمثيل، ولكل شخص له الحق في اختيار موهبته، ولكن الصحافة ليست نجومية، والصحفي لا يجب أنّ يكون له مجد شخصي من عمله، فالصحفي له مهمة ملتزم بأدائها على أكمل وجه، وعلى صعيد متصل هناك صحفيين من خلال أعمالهم وصلوا للعالمية بما بذلوه من عمل متقن ومحترف، ربما يأتي بالنجومية ولكن لا يجب على الصحفي أنّ يسعى من خلال عمله للوصول إلى النجومية.
من جهتها تقول الصحفية والمدربة الدولية “ميس قات” أنّ فضاء الانترنت فتح مجال التواجد في عالم الميديا للأشخاص بمستويات مختلفة و خلفيات متعددة، ظهرت مهن جديدة في السنوات الأخيرة (تيكتوكر، انغلونسر، انستغرامر، صانع محتوى) كلها لأشخاص يقدمون محتويات على الانترنت بعضها ذو قيمة وبعضها بلا قيمة، الأمر لا يختلف كثيراً عن المؤسسات الإعلامية التي قد تقدم محتوى ممتاز ومهم أو محتوى بلا قيمة، فالفضاء أصبح واسعاً جداً.
في حين أنّ المؤسسات الإعلامية التقليدية خاصة في المنطقة العربية مازالت عالقة في عصر الصحافة التقليدية، مازالت تطلق على الصحافة الرقمية اسم (الإعلام الجديد) فيما تكوّن الميديا الرقمية اليوم الوجه الإعلامي الأساسي بالنسبة للجمهور، بالتزامن أنّ رؤساء التحرير وصناع القرار في غرف الأخبار العربية مازالوا غير قادرين على استيعاب عجلة التطور، وفهم لغة الجيل الجديد، لذلك يلجأ المستخدمون إلى متابعة المؤثرين الذين باتوا قادرين على التحدث بلغة الجمهور اكثر من غالبية المؤسسات الصحفية التي تخاطب الجمهور بلغات جامدة.
وفي حديثها لشبكة الإعلاميين السوريين تؤكد ميس أنّ هناك صحفيون يرغبون في مخاطبة الجمهور بأنفسهم بدون قيود غرف التحرير، تقول: “لا أرى ضيرا في ذلك” لو رغب الصحفي أو الصحفية بالشهرة مع تقديم محتوى مفيد وذو قيمة فذلك جيد، ويبقى الخطر أنّ ينساق الصحفيون أو المؤثرون على حد سواء إلى جانب الشعبوية والانتشار، ونشر الأخبار الزائفة على حساب الحقائق والمعلومات المثبتة.
كتب هذا المقال بقلم الصحفي “مصعب الياسين” عضو في شبكة الإعلاميين السوريين